في الثامن من تموز، 1972 اغتيل غسان كنفاني في الحازمية، ضاحية بيروت الشرقية، حيث كان يقيم. انفجرت سيارته بعدما استقلها والى جانبه ابنة شقيقته لميس، وتطايرت أجزاؤها ومعها تحولت جثة الكاتب أشلاء وشظايا. ثلاثون عاماً مرت على الاغتيال ولا يزال الموت الفلسطيني هو الكاتب الخفي الذي يصوغ صورة المأساة المستمرة.
لم يكن كنفاني سوى حلقة من الموت الفلسطيني الكثير الذي غطى تاريخ المنطقة منذ بدء الغزوة الصهيونية واكتسابها شرعية دولية مع وعد بلفور الذي رسم سياسة الانتداب البريطاني على فلسطين.
هذا اللاجىء من عكا الى دمشق فالكويت فبيروت، لم يكن الكاتب الفلسطيني الأول الذي يسقط في المقاومة. فذكرى عبد الرحيم محمود، الشاعر الفارس الشهيد، كانت قد صارت جزءاً من ذاكرة فلسطينية تصنعها النكبة.
لكن اغتيال كنفاني اخذ شكل القتل الرمزي، وبه افتتحت إسرائيل سياستها المركزية مع الجسد الفلسطيني، فصار قتل القادة والمناضلين الفلسطينيين أشبه بطقس رمزي، يسعى ليس الى قتل الشخص المحدد فقط، بل الى قتل الفكرة الفلسطينية.
عندما اغتيل كنفاني في بيروت عام، 1972 اعتبر الكثيرون هذا العمل محض اغتيال سياسي، إما تحويل جسد الكاتب أشلاء فلم يكن مقصوداً في ذاته. اذ ان الهدف هو قتل الكاتب والمناضل الذي كان يترأس تحرير أسبوعية "الهدف" الناطقة باسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين".
لكن الشاعر الفلسطيني كمال ناصر كان له رأي آخر. روى محمود درويش ان كمال ناصر جاءه غاضباً، بعدما نشر درويش مقالاً في "الملحق" يرثي فيه كنفاني، وسأله: "ماذا ستكتب عن موتي، بعدما كتبت كل شيء عن غسان؟".
ضحك محمود درويش يومذاك من "النرجسية" الفلسطينية المرتبطة بالموت، ونسي الحكاية، الى ان قُتل كمال ناصر بعد تسعة أشهر من اغتيال كنفاني. ففي العاشر من نيسان، 1973 تسللت وحدة كوماندوس إسرائيلية الى بيروت، واغتالت ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية، كمال عدوان ومحمد يوسف النجار، عضوي اللجنة المركزية في حركة "فتح" وكمال ناصر الناطق الرسمي باسم منظمة التحرير الفلسطينية.
أمام جسد كمال ناصر المدمّى، أصيب الناس بالذهول. اذ لم يكتفِ الإسرائيليون بقتل الشاعر الفلسطيني رمياً بالرصاص، بل القوه أرضا على ظهره، يداه مصلوبتان، وهناك رصاصة في فمه.
يومذاك اتضحت دلالة الرمز في الموت الفلسطيني. كاتب "رجال في الشمس"، تمزق أشلاء وتطايرت أعضاؤه، والشاعر الناطق، أُخرس برصاصة في فمه، وصُلب على الأرض.
نشر محمود درويش رثاءه لكمال ناصر في قصيدة العرس الفلسطيني: "طوبى لشيء لم يصل"، ثم جاءت التقارير الإسرائيلية لتشير الى ان قائد عملية الاغتيال هو ضابط إسرائيلي يدعى أيهودا باراك، تسلل مع مجموعة كوماندوس في الجيش الإسرائيلي الى بيروت، متنكراً في زي امرأة تضع على رأسها باروكة شقراء.
"هذا هو العرس الذي لا ينتهي
في ساحة لا تنتهي
في ليلة لا تنتهي
هذا هو العرس الفلسطيني
لا يصل الحبيب الى الحبيب
إلا شهيداً أو شريداً".
قرأ محمود درويش اغتيال الشاعر الفلسطيني ورفيقيه، في سياق "عرس الدم" الفلسطيني الذي يجعل العاشق شهيداً، متابعاً بذلك تراث شعر الحب عند العرب الذي أوصله الشاعر الأموي جميل بثينة الى الشهادة: "لكل لقاء نلتقيه بشاشة/ وكل قتيل عندهن شهيد".
غير ان الصور الفوتوغرافية التي نشرتها صحف بيروت لكمال ناصر شهيداً، قدمت قراءة رمزية أخرى للاغتيال. فالشاعر الذي عمل ناطقاً رسمياً باسم منظمة التحرير أخرسته رصاصة في فمه. والفلسطيني المسيحي صُلب على الأرض وليس على الخشبة، والرسالة الإسرائيلية تبحث ليس عن القتل فقط بل عن القتل الرمزي.
اتخذت الاغتيالات ومحاولات الاغتيال طابعاً رمزياً صارخاً، بعد هذين الاغتيالين الكبيرين: أنيس صابغ، مدير مركز الأبحاث الفلسطيني، انفجرت عبوة ناسفة في يده وعينيه. الكاتب والباحث يجب ان تُشلّ يداه ويفقد البصر. والرجل الذي خلف كنفاني في رئاسة تحرير "الهدف"، بسام أبو شريف، انفجرت فيه عبوة مشابهة. وائل زعيتر قُتل في روما. ومحمود الهمشري وعز الدين القلق قُتلا في باريس. واللائحة تطول لتتوَّج في النهاية بخليل الوزير (أبو جهاد)، ثم تتخذ أبعادا جديدة عبر سياسة القتل العمد التي اتبعها الجيش الإسرائيلي في مواجهة انتفاضة الأقصى، حيث استخدمت الصواريخ التي ترميها المروحيات في الاغتيال بدءاً بالأمين العام ل"الجبهة الشعبية" أبو علي مصطفى، الى ما لا نهاية له من المناضلين.
كأن إسرائيل تخوض مع الشعب الفلسطيني معركة رمزية، الى جانب معركتها السياسية - العسكرية. الهدف هو محو الرمز الفلسطيني، وإحلال رمز مكان رمز. لكن السياسة الإسرائيلية صنعت من دون ان تدري ربما، مخزوناً رمزياً فلسطينياً جديداً، فصار الرمز اكبر من وعائه الأدبي، ولم ينحصر بالموت وحده، بل امتد الى حقول متنوعة، ربما كان مشهد الأسرى والمعتقلين هو الأكثر دلالة: العيون المعصوبة، الأيدي والأرجل المكبلة، الأجساد التي تُجبَر على التعري، الركوع... وهنا تأتي صورة مروان البرغوثي، أمين سر حركة "فتح" في الضفة الغربية، لتحتل مكانها الرمزي، في وصفها تجسيداً للفلسطيني المقاوم.
كان اغتيال غسان كنفاني، بداية الموت الفلسطيني الرمزي، اذ صار جسد الكاتب استعارة لأرضه، وصارت أشلاؤه صورة عن أشلاء شعب ممزق، وصار قبره صورة عن المنفى، حيث لا يستطيع الفلسطيني ان يجد لنفسه قبراً!
في حقل الموت تخوض الدولة العبرية أكثر معاركها الرمزية شراسة ضد الوجود الفلسطيني، فالمعركة التي قادت الحركة الصهيونية الى الاستيلاء على التاريخ والأرض والفولكلور والمطبخ والعمارة، لن يُكتب لها النصر إلا في حقل الموت الرمزي، عبر فرض المنفى الكامل على السكان الأصليين الذين يعيشون في بلادهم.
المقاومة بالرمز
لم تكتفِ "حرب الاستقلال"، وهذا هو الاسم الذي يطلقه الإسرائيليون على النكبة الفلسطينية، بطرد سكان فلسطين بالقوة، بل قامت بإحداث تغييرات جذرية على المشهد الريفي الفلسطيني، عبر تدمير القرى الفارغة من سكانها، وعبر زراعة ملايين أشجار السرو من أجل حجب الجريمة، وتغيير معالم البلاد، التي حوّلت الزيتون رمزاً. إضافة الى ذلك، فقد شهدت الأعوام الأولى لتأسيس دولة إسرائيل حمّى اركيولوجية، حولت مواطني الدولة علماء آثار، بحثاً عن مبررات "تاريخية" تدعم أسطورة أرض الميعاد التوراتية. واذا كانت الحمّى الاركيولوجية لم تصل الى أي نتائج، بحسب المؤرخ كمال الصليبي، فإن عملية الاستيلاء على الرموز الفلسطينية اتخذت حجماً كبيراً في ميادين الفولكلور والعمارة والمطبخ، فتمّ تسويق هذه العناصر الثلاثة في العالم بأسره، في وصفها خصوصيات إسرائيلية. ولقد أوضح الكاتب الفلسطيني انطون شماس في بحثه عن الفلافل، المدى الذي يمكن ان يصل إليه الاستيلاء الإسرائيلي على تاريخ الآخرين وأنماط عيشهم. وفي المقابل، أتت شهادة عين حوض التي حوّلها المعماري الإسرائيلي مارسيل يانكو قرية للفنانين الإسرائيليين، بعد طرد سكانها منها، لتقدم العمارة الريفية الفلسطينية كأنها خصيصة معمارية إسرائيلية، مثلما تحولت البيوت العربية في أحياء الطالبية والقطمون في القدس الغربية كيتشاً ثقافياً إسرائيليا. المنفى الذي صنعته إسرائيل للشعب الفلسطيني، يحمل هذه السمة. اذ لم يكتف الإسرائيليون بتدمير القرى واحتلال البيوت واقتلاع الأشجار من أجل بناء الغابات، بل قاموا أيضا بنفي الوجود المادي للشعب الفلسطيني، واستولوا على عناصر كثيرة من تراثه.
يقدّم الأدب الإسرائيلي لجيل الدولة، وخصوصاً في أعمال كل من عاموس عوز، "ميخائيل وحنة"، وأ. ب. يهوشع، "في مواجهة الغابات" و"العاشق"، نماذج من هذا النفي. ففي حين ترسم تهويمات حنة في رواية عوز عن التوأمين العربيين المغتصبين، صورة الفلسطيني في وصفه بدوياً، تقدّم حكاية الطالب الإسرائيلي الذي يذهب الى الغابة من أجل دراسة الحروب الصليبية، في قصة يهوشع، صورة الفلسطيني الأخرس، الذي يحرق غابة زُرعت من أجل محو قريته.
الفلسطيني غائب، ليس في السياسة فقط بل وفي الخيال الأدبي أيضاً. ولن تظهر صورة الفلسطيني إلا بعد احتلال فلسطين كلها عام ،1967 في أعمال روائيين مثل ديفيد غروسمان، وخصوصاً في روايته "ابتسامة الحمل".
لن نقدّم في المقال قراءة أدبية لأعمال غسان كنفاني، بل سنقتصر على تحليل مسألة المقاومة الرمزية، التي افتتحها هذا الكاتب الذي قُتل شاباً في السادسة والثلاثين، والذي جعل من حياته أشبه بالحمّى الأدبية والصحافية والنضالية. كأنه كان يعي دوره التأسيسي في صوغ مجموعة الرموز المضادة، أي في رسم مبنى رمزي - ثقافي، يشكل مرجعاً لمقاومة ثقافية.
تسمح لنا قراءة أدب كنفاني، وجهده النقدي في إطلاق الشعر الآتي من الجليل، أي من التجربة الأدبية التي صنعها المنفى المزدوج للفلسطينيين في إسرائيل، بأن نرسم ملامح الصراع الرمزي الذي خاضه هذا الكاتب من أجل تأسيس البنىة الأولية التي اتسعت بعد ذلك، وخصوصاً في شعر محمود درويش وروايات إميل حبيبي وجبرا ابراهيم جبرا، لتقدم إطارا مرجعياً لسؤال كبير: من هو الفلسطيني؟
لقد تشكل الجواب عن هذا السؤال في مستويين:
المستوى الأول، هو الارتباط بالأرض، والانطلاق من هذا المعطى، لتأسيس علاقة بالمكان.
المستوى الثاني، هو الرد على النفي بالتأكيد، أي الرد على النفي الإسرائيلي لوجود الشعب الفلسطيني، بالانطلاق من المنفى كمعطى لتأكيد الهوية. ولعل ادوارد سعيد كان أول من بلور آليات المنفى كمعطى في تكوين وعي الفلسطيني لذاته. الفلسطيني المنفي، هو المقابل لصورة اليهودي التائه.
يقدّم لنا أدب كنفاني، النمذجة الأولية لسؤال الرمز الفلسطيني. وهي نمذجة سوف يوسّع محمود درويش دائرتها لاحقاً، الى درجة تسمح لنا بالقول ان الجواب الرمزي الفلسطيني تبلور في منفيين:
المنفى الأول، هو بيروت الستينات، التي استقبلت الطليعة الأدبية العربية، وكانت تحمل علامات النهضة الأدبية الثانية، في الشعر الحديث والرواية الوجودية والنقد الجديد والفن التشكيلي.
المنفى الثاني، هو الجليل الذي نجحت تجربة الحزب الشيوعي في إسرائيل، في التحوّل ملجأ قومياً للأقلية الفلسطينية الريفية. ففي حيفا والناصرة، انطلقت حركة أدبية - شعرية اضطلعت بدور أساسي في بلورة الوعي بالذات، ضمن مقتربات غنائية - حديثة، وخصوصاً في الشعر.
كنفاني في بيروت، صار أشبه بالحالة الأدبية الكبرى. ففي إنتاجه الأدبي الغزير واكب الوعي الفلسطيني عبر صوغه أعمالاً سردية حديثة، أخذت على نفسها مهمة كتابة فجوات الذاكرة، ليس من أجل الذاكرة نفسها، بل من أجل بلورة صورة الذات.
هكذا نجد في هذا الأدب الملامح الأولى لمن هو الفلسطيني. ان نمذجتنا لهذه الملامح هي اقتراح أولي، في حاجة الى إعادة نظر من أجل ان يتم استكماله. لكننا سوف نغامر في هذا المقال، ونقدم طرحاً يتألف من سبعة عناصر:
الأرض: نجد الكيفية التي ستتحول من خلالها الأرض استعارة للمرأة: الأم والحبيبة، كما ستتحول المرأة استعارة للأرض، في أولى روايات كنفاني، "رجال في الشمس"، حيث سنقرأ في البداية وصف أبو قيس للأرض في اعتبارها امرأة، ولرائحتها التي تشبه رائحة امرأة تخرج من الحمّام، ولنبضها الذي يشبه نبض العصفور.
الأرض كاستعارة مزدوجة: الأرض - المرأة، الأرض - الرحم، سوف تحتل مساحة كبرى في الأدب الفلسطيني، من وديع عساف بطل "السفينة" لجبرا، الى "قصيدة الأرض" التي كتبها محمود درويش في ذكرى انتفاضة يوم الأرض.
كلمة الأرض، سوف تأخذ بعداً سياسياً وأدبياً. في السياسة ستصير اسماً لانتفاضة الفلسطينيين في إسرائيل ضد مصادرة الأراضي، وفي الأدب ستحتل مكانة مقدسة، وستمتزج بالمرأة، فتحتل الاستعارة والكناية حجماً كبيراً في وعي الذات لنفسها.
الطبيعة: يتخذ هذا العنصر نقطة تمركزه في شجرتين هما البرتقال والزيتون. أولى مجموعة كنفاني القصصية تحمل اسم "ارض البرتقال الحزين". رمز البرتقال هو أحد الرموز الأساسية التي استولت عليها إسرائيل، لكنه يحتل في أدب كنفاني موقع استعادة الرمز من جديد. وفي المقابل يأتي الأدب الريفي من الجليل، ليتمسك بالزيتون في وصفه رمزاً حياتياً - ثقافياً. حول هاتين الشجرتين، بنى الأدب الفلسطيني تصوراً كاملاً عن معنى الهوية المرتبط بالأرض. فإذا كان الفلسطيني قد نزح من الأرض، فإن الأشجار لا تنزح، وهي تشكل في ذلك علامة ثابتة على الوجود.
الفدائي: اللاجىء يتحول فدائياً. أليست هذه هي الرسالة التي لم يكتبها سعيد س. بطل "عائد الى حيفا"، الى ابنه خالد؟ صورة اللاجىء التي احتلت المدى الشعري والأدبي بعد النكبة، وخصوصاً في أعمال راشد حسين، وفي الكثير من قصص كنفاني، تخلي الساحة لصورة جديدة هي صورة الفدائي المقاتل التي سوف تفتتح "العرس" الفلسطيني، أي فكرة الشهيد، وتفرد لها مساحة كبيرة في الأدب الفلسطيني.
الأم: صحيح ان الأرض صارت استعارة للمرأة، لكن رواية "أم سعد" بتأثيراتها الواقعية الاشتراكية (أم غوركي)، ستقدم صورة جديدة للأم الفلسطينية. فالأم التي تعيش في مخيم لاجئين قرب بيروت، ستتخذ شكلاً جديداً، وتظهر على الفدائيين الذين تسللوا من الجنوب اللبناني الى فلسطين وتقدّم لهم الطعام. هذه الأم نفسها ستكون رفيقة الشاعر في سجنه (قصيدة "أمي" لدرويش، والأم التي تلتحق بمغارة ابنها في الطنطورة، كما في رواية "المتشائل" لحبيبي).
الآخر - الإسرائيلي: في روايته الثانية، "ما تبقى لكم"، تكون العلاقة بالإسرائيلي - الآخر، مستحيلة. الحوار الوحيد بين الجلاد والضحية هو القتال. غير ان كنفاني سيجري تعديلاً جذرياً على هذا المقترب في رواية "عائد الى حيفا"، حيث يدور حوار حقيقي بين سعيد س. والمرأة الإسرائيلية التي تحتل منزله في حيفا، ثم يصل هذا الحوار الى ذروته التراجيدية حين يلتقي الفلسطيني بابنه خلدون، الذي نسيه في البيت لدى نزوحه من حيفا. خلدون صار جندياً إسرائيليا يحمل اسم دوف، والحوار بين الأب وابن(ه) يتخذ شكل مواجهة حول المعنى.
هذا الإسرائيلي الغائب عن الأدب الفلسطيني، وعن صورة الذات لنفسها، يظهر أيضا، في أدب الأرض المحتلة. فهو في رواية حبيبي يتخذ شكل رجل الشرطة والمخابرات، لكنه سيعرف انقلاباً جذرياً في شعر محمود درويش، "جندي يحلم بالزنابق البيضاء"، أو في صورة المعشوقة المستحيلة التي اسمها ريتا، وأخيراً في صورة الفتاة السمراء التي تسرق مرآة الشاعر في ديوان "لماذا تركت الحصان وحيداً".
الاسم: لم يغب الاسم الفلسطيني عن أدب كنفاني، رغم ان قضية الاسم ستتخذ بعداً كبيراً في الشعر. فالاسم الفلسطيني لم يتعرض للنفي في إسرائيل وحدها، بل تمّ تغييبه عربياً بفعل مجموعة من العوامل المتشابكة: إلحاق الضفة الغربية بالأردن، تخوّف الأنظمة من التسلل الفلسطيني، وغلبة الخطاب القومي العربي. ولم يتخذ الاسم دلالاته الرمزية إلا في الشعر. من قصيدة "سجّل أنا عربي"، التي أعلنت التمسك بالهوية الفلسطينية في فلسطين، والتي اتخذت ببعدها الديموغرافي شكل التحدي ("وأولادي ثمانية، وتاسعهم سيأتي بعد صيف، فهل تغضب"؟)، الى "عاشق من فلسطين"، حيث صار لفظ الاسم الفلسطيني أشبه بتعويذة سحرية من أجل توكيد الهوية.
العاشق: "العاشق" هو اسم رواية لم يستطع كنفاني إنهاءها، فبقيت ناقصة مثل حياة مؤلفها، لكنها أشارت الى حالة تساهم في تحديد الوعي الفلسطيني. عاشق كنفاني، مجنون او ثائر او هو ابن "زمن الاشتباك". موضوع العشق هو الأرض - المرأة، ومساحته هي الرفض والعمل على التغيير. شخصية العاشق سيقوم جبرا ابراهيم جبرا ببلورتها في روايتيه: "السفينة" و"البحث عن وليد مسعود"، فتتم اسطرة الفلسطيني "القائد"، ويصير هو المغيّر والمثقف في العالم العربي. كأن جبرا، من دون وعي ربما، يستعيد صورة اليهودي التائه، المثقف الغني، ويسقطها على بطله الفلسطيني.
هذه العناصر السبعة، لا تغطي الرمز في الأدب الفلسطيني، بل قد لا تغطي جميع العناصر الرمزية في أدب كنفاني نفسه. فأدب كنفاني، تميّز بسمتين بارزتين:
السمة الأولى، هي بنيته الرمزية المختصرة، التي جعلت من رواياته، أشبه بقصص قصيرة - طويلة. أي أنها تحافظ على بنية القصة القصيرة من حيث وحدة الحدث فيها ("رجال في الشمس" و"عائد الى حيفا")، أو تتشكل في متواليات قصصية (أم سعد).
لم تكتفِ هذه السمة ببناء المرجعيات الرمزية للهوية، بل استنبطت أيضاً وعاء رمزياً محكماً لهذه المرجعيات. فالرمز يفترس المقدمة. كأن كنفاني كان يبحث عن مقترب لكسر البديهية الفلسطينية، وتحويلها رموزاً مكتوبة. البديهة لا تحتاج الى كتابة لأنها موجودة في الشفهي، أما الرمز فلا يتأسس إلا في بنية سردية أو شعرية.
السمة الثانية، هي الصرخة.
كنفاني كان يصرخ بالألم والحلم. أذكر اني حين قرأت "رجال في الشمس" للمرة الأولى بعيد صدورها، أحسست ان حرارة الشمس والقيظ لا تقتل الفلسطينيين الثلاثة فقط، بل تنتشر في مسامي، وتدفعني الى ما يشبه الصراخ. ربما كان قدر المؤسسين في الثقافة المقاومة، ان يبقوا في حدود الرمز، ويجمعوا بدايات الحكايات وليس الحكايات نفسها. اذ أننا لا نكاد نعثر من تجربة النكبة سوى على صفحات قليلة من روايات كنفاني وقصصه. كان الكاتب معنياً ببلورة الكلمات في وصفها سلاحاً للبقاء والفعل في آن واحد. لذا اكتفى من الأدب بالتقاط الملامح الأولى.
الموت الرمزي والموت الواقعي
لم يستطع أدب كنفاني تجاوز عتبة الرمز، لأن المؤلف نفسه صار رمزاً، ولم يترك له قاتله فسحة من الزمن تسمح له بأن يقترب من عملية بناء الرمز وتفكيكه، وهي عملية نجد بذرتها في رواية "الأعمى والأطرش" التي بقيت ناقصة أيضاً.